محنة الأمة بين الاستبداد السياسي والاستبداد الروحي
كاتب الموضوع
رسالة
Admin المدير
عدد الرسائل : 562 العمر : 35 الأوسمة : 75 تاريخ التسجيل : 09/07/2008
موضوع: محنة الأمة بين الاستبداد السياسي والاستبداد الروحي الإثنين أغسطس 11, 2008 10:43 pm
جاءت الرسالة الخاتمة من رب العالمين ؛ لتخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وفهم أبو بكر الرسالة، فقال للناس لما ساهموا في اختياره: وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، وقال عمر بن الخطاب بعده: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟ وسار عثمان على منهج الشيخين مع شيء من اللين والمرونة ، فرضهما طبعه وتغير في أحوال الناس ، ووقف علي مع خصم له أمام قاضيه شريح في قفص الاتهام ، رافضا أي تمييز له حتى تبرئ المحكمة ساحته .
وحدث بعد الخلافة الراشدة أول نقض لعرى الحكم ، مال به نحو الاستبداد وحرمان الأمة من حرية الاختيار، وبدأ معه الفساد من رأس الهرم يسري في الجسم شيئا فشيئا ، وتشتد القبضة على رقاب الناس وأموالهم ، وتضيع مع الزمن حرياتهم ، غير أنه بقي لهم هامش كبير للعمل والإرادة والعزيمة والمبادرة في العلم والعمران والجهاد ، يتسع ذلك كلما تركوا الحاكم وحاشيته ، وما يصل إليه سلطانه ، وكان من حسن حظهم أن الدولة في زمانهم لم تكن مهيمنة شأن أحوال الدولة في زماننا.
ثم تحرك فساد من نوع آخر، جاء للناس هذه المرة باسم التدين والزهد والصلاح ، بدأ وكأنه رد فعل على انغماس فئة مترفة في السلطة الحاكمة ومن يحوم في حماها ، فانقطع بعض الناس عن زينة الحياة الدنيا ، يحاكون حياة الرهبنة والتبتل والزهد ، والانقطاع للعبادة والذكر ، والترويج للكرامات وغريب الأحوال ، والتساهل في الابتداع عقيدة وعبادة وسلوكا ، وركب بعض أهل الأهواء الموجة، فأرادوا التربع على عرش أرواح الخلق ، والتوسط بين الله وبين عباده باسم الدلالة عليه، بعد أن تربع السلاطين على رقابهم.
وحدث أن اتخذوا مداخل مشروعة في أصلها ، فغلوا فيها وانحرفوا بها بعيدا عن السنة والأصول ، مثل حب آل البيت ، وأهمية مجالس الذكر ، والرغبة في التزكية ، والشعور الطبيعي بالتقصير ، والرغبة في التوبة والخروج من الذنوب ، وتوقير العلماء وأهل السابقة والصلاح ، وبشرى الرؤيا الصالحة ، ومعاني أخرى في الولاية ، وأحاديث المهدي المنتظر ، وقصة الخضر عليه السلام ، ومسألة العلم اللدني الذي أهله ليتعلم منه موسى عليه السلام بعض ما أتاه الله من العلم ، أو بالأحرى فهم شيء من ملامح القدر الرباني ، وما وراءه من حكم بالغة...
فاستغل بعض من ذهب الإسلام بسلطانهم القديم مأساة الصراع على الحكم ، فتظاهروا بالتشيع لآل البيت ونصرة حقهم ، واستثمروا القسوة الشديدة التي ووجهوا بها ، وغيبة بعضهم أو سرية تحركاتهم بسبب المطاردات التي تعرضوا لها ، حيث تمكن بعض أهل الأهواء من اختلاق ما أرادوا من مرويات باسم آل البيت ، وادعوا تسلسل الوصية فيهم إلى أن وصل بها بعضهم إلى الثاني عشر من أحفاد علي من فاطمة رضي الله عنهما ، فقالوا بغيبته في سرداب وهو صغير، ومن ذلك الوقت ينتظرون عودته ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ، وحتى ذلك الحين لا بأس أن يكون له نواب ، ومن يتحدث باسمه ويبشر به ، ولو من غير آل البيت أو العرب والقرشيين ، ويروون عنه الأحاديث يقظة ومناما ، يبررون بها مخترعاتهم في العقيدة والعبادة بما لا يسعفهم فيه ظاهر الكتاب والسنة الصحيحة ؛ ولامتلاكهم لهذا المصدر المعرفي"النفيس" ملكوا معه أرواح المحبين والأتباع وخمس أموالهم ، يقوون بها نفوذهم وحوزاتهم ، وفي كثير من الأحيان يبسطون سلطانهم على رقابهم وبلدانهم أيضا.
ولم يكن شيوخ الاستبداد الروحي بأفضل حال في مجال النفوذ السني ، فقاموا بحشو معنى "الولاية" بما طاب لهم من خيال ، ما دامت النبوة ختمت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، حتى ادعوا التصرف في ملكوت السماوات والأرض ، واخترعوا أحاديث من مثل ما يعتبر عندهم حديثا "قدسيا" وهو لا أصل له في كتب السنة ،حيث جاء فيه: " عبدى أطعنى تكن ربانيا تقول للشيء كن فيكون"وأحيطوا بعبارات من التبجيل والتقديس لم تعهد في الصحابة ولا في السلف الصالح ، من مثل: الغوث، والأقطاب ، والأبدال، والنجباء...
واشترطوا في المريدين كامل التسليم كحال الميت بين يدي غاسله ، وطالبوا بالمبالغة في حسن الظن بالشيوخ مهما ظهر فيهم من تجديف وتخريف وكذب ، وانحراف عن ميزان العقل والشرع.
وتجاوزا المصادر المعهودة لتلقي الدين، فهم يتلقون عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، وبغير وساطة العلماء والمحدثين والرواة ، وعلم الجرح والتعديل ، وكتب السنة ، يأخذون عنه يقظةً ومناماً ، فتمكنوا بذلك من إيجاد أحاديث تناسب ما يهوون من أحوال ، وتصحيح أخرى ضعفها العلماء ، أو حكموا عليها بالوضع ، وإضعاف أخرى غير مناسبة لما هم فيه .
فهذا الشعراني في "الطبقات" يتحدث عن مراسلة من شخص للشيخ عبد القادر الشاذلي ، يسأل فيها الشفاعة عند السلطان قاتباي ، فأجابه بقوله: "اعلم يا أخي إنني قد اجتمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتي هذا خمسا وسبعين مرة يقظة ومشافهة ، ولولا خوفي من احتجابه صلى الله عليه وسلم عني بسبب دخولي على الولاة لطلعت القلعة وشفعت فيك عند السلطان ، وإني رجل من خدام حديثه صلى الله عليه وسلم ، وأحتاج إليه في تصحيح الأحاديث التي ضعفها المحدثون من طريقهم ، ولا شك أن نفع ذلك أرجح من نفعك أنت يا أخي .
" وقال النبهاني في "سعادة الدارين"ص:422 "ولقد كان شيخي وشيخ والدي الشمس محمد بن أبي الحمائل يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة كثيراً حتى يقع له أنه يُسأل في الشيء فيقول: حتى أعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يدخل رأسه في جيب قميصه ثم يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه كذا "وفي "سعادة الدارين"ص:432 "وحكي عن بعض الأولياء أنه حضر مجلس فقيه فروى ذلك الفقيه حديثاً فقال له الولي: هذا باطل ، فقال: الفقيه من أين لك هذا؟ فقال: هذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف على رأسك يقول: إني لم اقل هذا الحديث".
وكثرت حكايات لقياهم للخضر عليه الصلاة السلام ، والأخذ عنه أحكاماً وعلوماً دينية ، وأورادا ، وأذكارا و مناقب ، وتلقيهم عن أنبياء غير محمد صلى الله عليه وسلم ، ولهم من المصادر: حديث القلوب عن الله مباشرة "حدثني قلبي عن ربي" ، والهواتف من الله تعالى ، أو من الملائكة ، أو الجن الصالح .. ، ولهم الإسراءات والمعاريج : ويقصدون بها عروج روح الولي إلى العالم العلوي ، وجولاتها هناك ، والإتيان منها بشتى العلوم والأسرار ، وكذا الكشف الحسي عن حقائق الوجود حيث ترتفع الحجب عن عين القلب وعين البصر.
وتعتبر الرؤى والمنامات من أكثر المصادر التي يتلقون فيها عن الله تعالى ، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبواسطتها إلى جانب الهواتف يثبتون شرعية منهجهم وتزكية شيوخهم ما دامت نصوص الشرع المعلومة لا تسعفهم ، كل ذلك استبدادا بأرواح العباد ، وأكلا لأموال الناس بالباطل ، وربما تمهيدا لسلطان يشمل البلدان والأبدان، وسيرا ضد مقاصد الشرع الذي جاء بحق لتحرير رقاب الناس وأرواحهم من قبضة طواغيت السياسة و"الدين".
محنة الأمة بين الاستبداد السياسي والاستبداد الروحي